البابا شنوده الثالث الراحل كان بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر، و هو البابا رقم 117في تاريخ بابوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وقبل أن يصبح البابا كان أول أسقف للتعليم المسيحي.
الأديب توفيق الحكيم يبحث عن تفسير لآيَةٍ في الإنجيل
قال الحكيم: قرأت عبارة أفزعتنى, وسجلتها لأسال فيها حتى يطمئن قلبى، وهى عبارة فى أنجيل لوقا الأصحاح 12 عدد 51 حيث قال فيها السيد المسيح: (جئت لألقي نارًا على الأرض .. أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض … كلا أقول لكم بل انقسامًا)، فكيف والسيد المسيح أبن مريم كلمة الله، جاء ليلقى نارًا على الأرض.
فكيف يكون الله تعالى هو الكريم، و أنه كتب على نفسه الرحمة، و يقول فى قرآنه أن المسيح كلمة منه .. و المسيح يقول فى أنجيل لوقا أنه جاء ليلقي نارًا على الأرض ؟، فقد غمرتنى الدهشة و قلت لابُدّ من تفسير لذلك.
حيرة الأديب توفيق الحكيم في آيَةٍ إنجيل لوقا و سؤال الى البابا شنوده
فمن يفسر لي حتى يطمئن قلبى؟، وصرت أسأل من أعرفهم من أخواتنا المسيحيين المثقفين عن ذلك، فلم أجد عندهم إجابة تريح نفسي، وقولت أما فيما يخص المسيحيين فمن أسال غير كبيرهم، الذي أحمل له كل التقدير الكبير لعلمه الواسع، و إيمانه العميق هو البابا شنوده الثالث، فهل المسيحي العادي يفطن لأول وهلة إلى المعنى الحقيقى لقول السيد المسيح.
رد البابا شنوده الثالث على خطاب الأديب توفيق الحكيم
رد قداسة البابا على الخطاب الذي نشر في جريدة الأهرام، قائلا: عميد الأدب في أيامنا: الأستاذ الكبيرالأديب توفيق الحكيم ، تحية طيبة و دعاء لكم بالصحة والعافية، من القلب الذي يكن لكم كل الحب، فأنا قارئ لكم معجب بكتاباتكم، وأحتفظ بكل كتبكم في البطريركية وفيى الدير أيضا.
فقد قرأت مقالكم الذي نشر في جريدة الأهرام يوم الاثنين 2 ديسمبر 1985م، والذي قدمتم فيه أسئلة بشأن بعض الآيات التى وردت في الكتاب المقدس (إنجيل لوقا 12). وعرضتموها بأسلوب كريم و برقة زائدة، يليقان بالأستاذ الكبير عميد الأدب العربي.
وأشكر ثقتكم وأرسل لكم إجابة حاولت أختصارها على قدر ما أستطيع، وأكون شكرًا لكم إن أمكن نشرها كاملة كما هى، لأن تساؤلكم قد أثار تساؤلات عند الكثيرين، والجميع ينتظر الرد.
وختامًا لكم كامل محبتي.
أمضاء: البابا شنوده الثالث
تفسير البابا شنوده لآيَةٍ إنجيل لوقا
مقدمة الرد
حينما نتحدث عن آية من الإنجيل، لا نستطيع أن نفصلها عن روح الإنجيل كله، لأننا قد لا نستطيع فهمها مستقلة عنه، فلنضع أمامنا روح كتاب المقدس، ورسالة المسيح التى ثبتت فى أذهان البشر، ثم نفهم تفسير الآية فى ظل المفهوم العام الراسخ فى قلوبنا.
فرسالة يسوع المسيح هى رسالة حب وسلام (سلام مع الله، وسلام مع الناس .. أحباء وأعداء، وسلام داخل نفوسنا بين الروح و العقل والجسد، ففي ميلاد السيد المسيح قد غنت الملائكة قائلة (المجد لله فى الأعالي، و على الأرض السلام وفي الناس المسرة).. (لو 2 : 14)، و قد دعي المسيح (رئيس السلام) في (أش 9 : 6)، و قد قال لنا (سلامى أترك لكم .. سلامى أعطيكم .. لا تضطرب قلوبكم و لا تجزع) فب (يو14 : 27)، وقال أيضا (أي بيت دخلتموه فقولوا سلام لأهل هذا البيت) في (لو 10 : 6).
فقد ذكر السلام كأحد ثمار الروح فى القلب، فقيل (ثمر الروح .. محبة فرح سلام) في (غل 5 : 22)، و فى مقدمة العظة على الجبل قال: (طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون) في (مت 5 : 9)، كما ورد في الكتاب أيضًا (أطلب إليكم .. أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التى دعيتم لها، بكل تواضع القلب و الوداعة و طول الأناة .. محتملين بعضكم بعضًا بالمحبة، مسرعين إلى حفظ وحدانية الروح برباط السلام .. ولكي تكونوا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا) في (أف 4: 1-4).
كما دعا السيد إلى السلام، حتى مع الأعداء و المقاومين، حيث قال (لا تقاوموا الشر … بل من لطمك على خدك الأيمن، فحول له الآخر أيضًا … ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا … ومن سخرك ميلًا، فاذهب معه أثنين، ومن سألك فأعطه) في (مت 5: 39-42).
بل فقد قال أكثر من ذلك قال: (أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم .. وإن سلمتم على أخوتكم فقط، فأن فضل تصنعون” (مت 5 : 44-47).
ولست مستطيعًا أن أتذكر كل ما ورد في الكتاب المقدس عن رسالة السلام في تعليم السيد يسوع المسيح، إنما أكتفى بذلك الآن، وعلى أساسه سوف نفهم الآيات التي هي موضع السؤال المطروح، وكمقدمة ينبغي أن أقول إن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز، و من المجاز، ومن الإستعارات والكنايات، ومن الأساليب الأدبية المعروفة.
الرد على الآيَةٍ
جئت لألقى نارًا .. وهى قول السيد : (جئت لألقى نارًا على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت) في (لو 12 : 49).
– إن النار ليست فى ذاتها شرًا. و إلا ما كان الله قد خلقها، و ليست بصدد الحديث عن منافع النار، و لا عما قيل عنها من كلام طيب بالأدب العربى، وىإنما أقول هنا إن النار لها معان رمزية كثيرة في الإنجيل.
– فالنار هنا ترمز إلى عمل الروح القدس فى قلب الإنسان، وقد قال يوحنا المعمدان عن المسيح (هو يعمدكم بالروح القدس ونار) في (لو 3 : 16)، و قد حل الروح القدس على تلاميذ السيد المسيح على هيئة ألسنة كأنها من نار (أع 2 : 3)، وكان ذلك إشارة إلى أن روح الله ألهبهم بالغيرة المقدسة للخدمة، وهذة الغيرة يشار إليها في الإنجيل بالنار، وهى النار التى أعطت قوة لتطهير الأرض من الوثنية و عبادة الأصنام، وهذة النار هى مصدر الحرارة الروحية، و قد طلب منا فى اكتاب المقدس أن نكون (حارين فى الروح) في (رو 12 : 11). و قد قيل أيضًا (لا تطفئوا الروح) في (1تس 5 : 129).
– و النار ترمز أيضًا إلى المحبة في الكتاب، وقيل في هذا (مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة) (نش 8 : 7)، وقيل أيضًا (لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين) في (مت 24 : 14).
– والنار أيضًا ترمز إلى كلمة الله، كما قيل في الكتاب (أليست كلمتي هذة كنار، يقول الرب) في (ار 23 : 29)، و قد قال أرمياء النبي عن كلام الرب إليه (فكان فى قلبي كنار محروقة) في (أر 20 : 9). لهذا لم يستطع أن يصمت، على الرغم من الإيذاء الذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة.
– والنار ترمز أحيانًا إلى التطهير بالكتاب، كما قيل عن إشعياء النبى إن واحدًا من الملائكة طهر شفتيه بجمرة من النار (أش 6 : 6, 7)، وإن كانت النار تحرق القش، إلا أنها أيضا تنقي الذهب من الأدران، و تقوي الطوب الطين وتجعله صلبًا، وكانت تستخدم فى العلاج الطبي (بالكي).
الذي كان يقصده السيد المسيح بالنار
فكان يقصد بإنني سألقى النار المقدسة فى القلوب،فتطهرها، و تشعلها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله، على الأرض لهذا قال: (ماذا أريد لو اضطرمت)، هذه النار قابلتها نار أخري من أعداء الإيمان، وهكذا أشتعلت الأرض نارًا كما قال، وكانت نتيجتها إبادة الوثنية، بعد أضطهادات تحملها المسيحيين في كل مكان.